خُطّة بايدن لغزة- دروس أكتوبر و فخاخ السياسة الأمريكية

المؤلف: فهمي هويدي10.25.2025
خُطّة بايدن لغزة- دروس أكتوبر و فخاخ السياسة الأمريكية

إن إطلاق خطة الرئيس الأمريكي جو بايدن، التي أُعلنت في اللحظات الأخيرة من حرب غزة، يعيد إلى الأذهان الذكريات والعبر المستخلصة من حرب أكتوبر/تشرين الأول. هذه الحرب، التي أشعل فتيلها التحرك العسكري المصري الجسور في السادس من أكتوبر/تشرين الأول عام 1973، سبقت الانتفاضة الفلسطينية الكبرى التي شهدناها في الشهر نفسه من العام الماضي. كلا الانتفاضتين اتسمتا ببراعة الأداء المذهلة في البدايات، لكنهما واجهتا الخبث الأمريكي، وانتهت نهايات متباينة.

(1)

لا مجال للخوض في التفاصيل العسكرية، لكن البراعة التي أتحدث عنها تتجلى في الإعداد المحكم، والتمويه البارع، وعنصر المفاجأة المباغت، والشجاعة الفائقة في التنفيذ، الأمر الذي أوقع المحتل "الإسرائيلي" في حيرة وارتباك شديدين. وبالعودة إلى الانتفاضة المصرية، نتذكر الرئيس أنور السادات، الذي تولى مقاليد الحكم عام 1970، وبعد عامين فقط اتخذ قرارًا جريئًا بطرد الخبراء السوفييت من مصر، ملمحًا بذلك إلى تحول في توجهاته السياسية، وهو ما تجلى بوضوح في عبارته الشهيرة بأن 99% من أوراق اللعبة بيد أمريكا، وهي الإشارة التي استُغلت لتوفير اتصالًا مباشرًا مع هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكي آنذاك.

وعبر قنوات عديدة تم تحقيق هذا الاتصال، والأهم من ذلك أنه مكّن الطرفين من تبادل وجهات النظر حول قضايا مختلفة، وعلى رأسها كيفية التعامل مع الاحتلال "الإسرائيلي" لشبه جزيرة سيناء. وفي هذا السياق، أعرب كيسنجر عن وجهة نظر مفادها أن "إسرائيل" ليست ملزمة بفتح هذا الملف طالما أن الوضع على الجبهة مستقر وهادئ، وأنه لا سبيل لتحريك هذا الوضع إلا بعمل عسكري يغير ميزان القوى بين الطرفين.

التقط السادات هذه الإشارة بذكاء، خاصة وأن الجيش المصري بدأ في استعادة قوته وتماسكه، وهو ما أثبتته حرب الاستنزاف التي خاضتها القوات المسلحة المصرية بكفاءة عالية. وبناءً على ذلك، تم تنشيط جاهزية الجيش بهدف تحقيق الهدف المنشود، وهو تغيير ميزان القوى في سيناء.

ولدى العسكريين روايات مفصلة سبق نشرها، تشرح كيفية التعبئة واختراق خط بارليف، والالتحام المفاجئ بقوات الاحتلال، الأمر الذي صدم الجيش والحكومة في "إسرائيل". تمت العملية ببراعة فائقة هددت بإنزال هزيمة قاصمة بـ"إسرائيل" في سيناء، الأمر الذي كان من شأنه تغيير ميزان القوى لصالح تفوق القوات المسلحة المصرية. إلا أن طلائع الجيش المصري توقفت بعد العبور، فيما يصفه العسكريون بأنه "وقفة تعبوية"، وكان ذلك قرارًا سياسيًا، نقلته رسالة وجهها السادات إلى كيسنجر، وهنا بدأ الدبلوماسي اليهودي في لعب دوره.

فعلى الرغم من الفزع الذي أصاب "إسرائيل"، والتي أبدت استعدادها لوقف إطلاق النار على الجبهة، إلا أنه رفض وقف القتال في تلك الظروف، ريثما يتغير الميزان العسكري لصالح "إسرائيل" أولًا. حينها تم تكثيف الجسر الجوي الأمريكي لإمداد "إسرائيل" بالأسلحة والعتاد والمتطوعين. وبسبب توقف تقدم القوات المصرية، لأنها لم تتوغل إلى أبعد مما تحقق في السادس من أكتوبر/تشرين الأول، انتهزت "إسرائيل" الفرصة وتقدمت مدعومة بالقوات الجوية الأمريكية لتحقيق ثغرة "الدفرسوار"، ونقل المعركة إلى الضفة الغربية للقناة.

استمر كيسنجر في لعب دوره ببراعة، فاستمر في التسويف والمماطلة بعد صدور قرار مجلس الأمن رقم (338) بوقف القتال، حتى تمكنت قوات جيش الاحتلال "الإسرائيلي" المتواجدة في غرب القناة من قطع طريق القاهرة – السويس، الأمر الذي أدى إلى عزل التجمع الرئيسي للجيش المصري الثالث الميداني. وكان ذلك في صالح "إسرائيل"، لأن الثغرة في بدايتها كانت جيبًا متواضعًا لا يغير المعادلة لصالحها.

ولإحكام السيطرة، أيد كيسنجر فكرة عدم ارتداد القوات "الإسرائيلية" إلى خطوط 21 أكتوبر/تشرين الأول (وقت صدور قرار وقف القتال)، وأقنع مصر بقبول الأمر الواقع، والتفاوض على أساس الوضع المستجد. ثم قام بدوره في ترتيب اللقاءات المباشرة العسكرية والسياسية بين مصر و"إسرائيل" تحت رعاية الأمم المتحدة والإشراف الأمريكي.

بقية القصة معروفة، إذ عُقدت مفاوضات اللجان العسكرية، وتواصلت اللقاءات والاتصالات السياسية على نحو وطد العلاقات بين السادات وكيسنجر. وهو ما مكن وزير الخارجية الأمريكي من توجيه المفاوضات ونتائجها نحو تحقيق المصالح "الإسرائيلية" على نحو مهد الطريق ليبلغ مداه، ويحقق الغاية بتوقيع معاهدة كامب ديفيد، بحيث لم يخطر ببال أحد أن العبور العظيم الذي تحقق في السادس من أكتوبر/تشرين الأول 1973، سينتهي بأكبر وأخطر اختراق "إسرائيلي" للصف العربي والوطن العربي جراء تلك المعاهدة. واعتبر ذلك نموذجًا صارخًا لإجهاض المعركة العسكرية التي تم إنجازها في البداية بما يفضي إلى خسارة الحرب بالألاعيب والحيل السياسية في نهاية المطاف.

(2)

هذا النهج الأمريكي المتحيز والمخادع، تم اتباعه لاحقًا بعد ساعات من انطلاق مفاجأة "طوفان الأقصى" التي هزت أركان الدولة والجيش في "إسرائيل"، وكانت الشخصية الأبرز التي ظهرت على المسرح الأمريكي هذه المرة هو الرئيس بايدن الكاثوليكي المتعصب، الذي تباهى بصهيونيته أمام الملأ، وإلى جانبه وزير خارجيته أنتوني بلينكن الذي ذَكَّر الجميع بأصوله اليهودية في أول زيارة له لـ"إسرائيل" بعد "طوفان الأقصى".

وذلك الاستنفار الأمريكي لم يكن محليًا فحسب، لأن صداه وصل إلى الجميع، بما في ذلك العالم العربي والإسلامي. وهذا يفسر على الأقل حالة السكون المريب التي خيمت على أغلب العواصم العربية بعد الحرب، مثيرًا السخرية المرة التي ذكرت أن صوت الغضب في جامعة كولومبيا بمدينة نيويورك، كان أقوى وأعلى من صوت جامعة الدول العربية بجلالة قدرها.

هناك دروس جمة كشفت عنها حرب غزة، أحدها أن الولايات المتحدة ليست منحازة لـ"إسرائيل" فحسب، بل هي شريك حقيقي في القتال، في حين تتجمل أحيانًا بالوساطة والتهدئة. فلا تمانع ولا تخجل مثلًا في إشراك طائرات سلاح الجو الأمريكي في إلقاء بعض المواد الإغاثية للفلسطينيين من الجو إلى البحر، في الوقت ذاته تغرق "إسرائيل" بالأسلحة الفتاكة لإبادة الفلسطينيين. وتتبنى الترويج لحل الدولتين، في حين تعارض انضمام دولة فلسطين إلى الأمم المتحدة، وتقدم نفسها زعيمة للعالم الحر ووسيطًا لإنهاء الصراع في الشرق الأوسط، بينما تعارض وقف القتال في القطاع.. إلخ.

ما فعله كيسنجر أنه قام بدوره في إنقاذ "إسرائيل" من أزمتها حين فوجئت بعبور الجيش المصري في عام 1973، كما تولى ترتيب تغيير ميزان القوى لصالح المحتل، بما انتهى إلى إخراج مصر من الصف العربي باتفاقية كامب ديفيد المشؤومة. ولا مفر من استحضار هذه الخلفية في قراءة سياسة بايدن منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وهو الذي تواجد مع أجهزته وجيشه إلى جانب "إسرائيل" في اليوم التالي لعملية "طوفان الأقصى"، ولم يساعد "إسرائيل" في أزمتها ولم يحارب إلى جانب جيشها فحسب، وإنما فعل ما هو أدهى وأمر، حين برر لها كل جرائمها البشعة التي تابعها العالم بأسره على الهواء مباشرة، فاعتبر أنها لم تتجاوز الخطوط الحمراء وهي "تدافع عن نفسها". ولحفظ ماء الوجه بعد أن طال أمد القتال، وفشلت "إسرائيل" في تحقيق شيء من "أهدافها الإستراتيجية" المعلنة، أعلن في الشهر الثامن من الحرب عن خطة لوقف القتال من ثلاث مراحل دعت إلى إطلاق الأسرى "الإسرائيليين" في المرحلة الأولى، وركزت على "التفاوض" مفتوح الأجل في المرحلتين التاليتين.

(3)

إن إدراكنا للدور "الإسرائيلي" الخفي في المشروع الذي قدمه الرئيس الأمريكي، ينبهنا إلى وجهته المشبوهة، ويشككنا في صدقية معديه وأهدافه الخفية. فقد كان واضحًا أن مراده يستهدف حشر حركة حماس في الزاوية، واتهامها بأنها تعارض وقف القتال. وكان ذلك جليًا في مسارعة المسؤولين الأمريكيين الذين ادعوا أن الكرة في ملعب حماس، ويجب عليها أن توافق على خطة المشروع، رغم أن محتواها يصب بالكامل في صالح "إسرائيل"، حتى يبدو وكأنه بمثابة إعلان عن انتصارها الزائف في الحرب.

وعلى الرغم من أن رفض الخطة كان يبدو متوقعًا وضروريًا، فإن قيادة حماس تصرفت بذكاء وحنكة سياسية، بعد أن رحبت بالقرار فقط ولم تعلن قبوله، وأعلنت أن لديها بعض الملاحظات الهامة على مضمونه. ذلك أن المحتوى الذي تمت صياغته ببراعة كيسنجرية فضفاضة يتجاهل نقاطًا جوهرية ويبيع كلامًا ناعمًا ومعسولًا يمكن تأويله وتفسيره على نقيضه وعكس مراده.

أذكر في هذا الصدد أنه خلال الأسابيع السابقة تداول الوسطاء أوراقًا وأفكارًا قدمتها "إسرائيل" أثناء المفاوضات، لفتت الانتباه فيها عبارة وقف إطلاق النار بما يوفر "الهدوء المستدام"، الأمر الذي أثار التساؤل عما إذا كان ذلك يعني وقف القتال بصفة دائمة أم مؤقتة، مما استدعى لجوء الطرف الفلسطيني إلى خبراء القانون الدولي في لاهاي، حيث الذراع القانوني والقضائي الأعلى للأمم المتحدة، ومنهم من شارك في اتفاقية أوسلو المشؤومة.

وحين تم استفتاؤهم في ذلك كان من رأيهم أن مصطلح "مستدام" لا يمنع من تجديد القتال في المستقبل، وهو ما يفسر إصرار الطرف الفلسطيني على توضيح الصياغة، بحيث يكون النص صريحًا في إشارته لوقف القتال بصفة دائمة، وليست مؤقتة، وهو ما رفضه "الإسرائيليون" لأسباب متوقعة.

هذا التلاعب اللغوي الخبيث هو مجرد نموذج للفخاخ الموجودة في الخطة المقترحة، من قبيل ذلك أيضًا النص على الانسحاب من المناطق المأهولة في غزة، الأمر الذي يعني بوضوح أن الانسحاب ليس كاملًا، وأن التواجد العسكري (الاحتلال) للقطاع سيظل قائمًا.

كما أن في الخطة بندًا يتعلق بتسهيل دخول المواد الإغاثية إلى القطاع، متجاهلًا عمدًا جميع التوصيات الأممية بفتح المعابر دون قيود، وسكوتًا مخزيًا على استمرار الحصار الجائر المفروض منذ سبعة عشر عامًا. وفي الخطة أيضًا اعتراف باهت بمعاناة الشعب الفلسطيني يتجاهل الإشارة إلى دولة فلسطين التي باتت مطروحة عالميًا، ولا يذكر حتى حل الدولتين الذي تسوقه واشنطن منذ أكثر من ثلاثين عامًا.

ومن الأمور المضحكة المبكية في الاقتراح أنه ترك بعض المسائل الدقيقة لـ "التفاوض بين الطرفين"، وكأن التجربة الفلسطينية المعاصرة ليست شاهدًا على هذه الخدعة المكشوفة، وأن شعبها وقادة مقاومتها ليسوا بلا ذاكرة، وأنهم سيعودون إلى لعبة التفاوض العقيم الذي يمكن أن يستمر عشرات السنين بلا طائل. وليس بعيدًا عن الأذهان المصير المأساوي لـ "عملية السلام" وسردية حل الدولتين التي لا يأخذها الداعون لها على محمل الجد.

لم يعد هناك أدنى شك في أن "إسرائيل" قد فشلت عسكريًا فشلًا ذريعًا في غزة. ومن الواضح الجلي الآن أنها باتت تعول على الجهد السياسي والدبلوماسي الخادع، رغم الفضائح المدوية التي باتت تلاحقها سياسيًا وأخلاقيًا وقانونيًا. لكن ما يؤرقنا حقًا هو أن يتم توريط الطرف العربي في اللعبة الجديدة من خلال من يسمون زورًا وبهتانًا بالحلفاء العرب، الذين ننزههم عن المشاركة في شوط الختام المريب، سواء كلاعبين أساسيين أو حتى كمجرد بدلاء.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة